ومشكلة يونان النبي :أن ذاته كانت بارزة ومهمة في طريق كرازته. وكانت تقف حائلا بينه وبين وصية الله,
ما موقفي كنبي, وكرامتي, وكلمتي, وفكرة الناس عني؟؟ وماذا أفعل إذا اصطدمت كرامتي بطريقة الله في العمل؟
ولم يستطع يونان أن ينتصر علي ذاته...
كلفه الله بالذهاب إلي نينوي, والمناداة بهلاكها... وكانت نينوىعاصمة كبيرة فيها أكثر من 120000 نسمة.
ولكنها كانت أممية وجاهلة وخاطئة جدا, وتستحق الهلاك فعلا. ولكن يونان
أخذ يفكر في الموضوع: سأنادي علي المدينة بالهلاك, ثم تتوب, ويتراءف
الله عليها فلا تهلك.
ثم تسقط كلمتي, ويكون الله قد ضيع كرامتي علي مذبح رحمته ومغفرته.
فالأفضل أن أبعد عن طريقه المضيع للكرامة!!
وهكذا وجد سفينة ذاهبة إلي ترشيش, فنزل فيها وهرب. لم يكن يونان من النوع الذي يطيع تلقائيا.
إنما كان يناقش أوامر الله الصادرة إليه, ويري هل توافق شخصيته وذاته أم لا.
لا نريد أن نعمل مثل يونان, الذي تلقي الأمر من الله, فناقشه ثم رأي
الحكمة في مخالفته... وهكذا استقل سفينة ليهرب من الرب! مسكين هذا
الإنسان الذي يظن أنه يقدر علي الهروب من الله!
تري إلي أين يهرب؟!
مهما هربت من الوصية ستجدها تطاردك حيثما كنت.
ترن في أذنيك وتدور في عقلك, وتزعج ضميرك...
إن كلمة الرب قوية وفعالة, ومثل سيف ذي حدين, وتستطيع أن تخترق القلب والعقل, وتدوي في أرجاء الإنسان.
هرب يونان إلي ترشيش, ونسي أن الله موجود في ترشيش أيضا. وركب السفينة
والعجيب أن يونان كان قد نام في جوف السفينة نوما عميقا. لا أيقظه
الموج, ولا صوت الأمتعة وهي تلقي في الماء, ولا صوت ضميره!!
نام يونان, لم يهتم بمشيئة الله وأمره, ولم يهتم بنينوي وهلاكها أو
خلاصها, ولم يهتم بأهل السفينة وما تجره عليهم خطيئته... لكنه تمركز
حول ذاته, وشعر أنه حافظ علي كرامته فنام نوما ثقيلا...
هذا النوم الثقيل كان يحتاج إلي إجراء حاسم من الله: به ينقذ ركاب
السفينة جسديا وروحيا, وينقذ مشيئته من جهة نينوي وخلاصها, وينقذ نفس
هذا النبي الهارب, ويعلمه الطاعة والحكمة..
وهكذا أمر الله الرياح, فهاج البحر, وهاجت أمواجه, وصدمت السفينة حتي كادت تنقلب.
وازداد هيجان البحر,
وتصرف ركاب السفينة بحكمة وحرص شديدين... وبذلوا كل جهدهم الفني,
وصلوا كل واحد إلي إلهه وألقوا قرعا ليعرفوا بسبب من كانت تلك البلية,
فأصابت القرعة يونان.
ا
الوحيد الذي لم يذكر الكتاب أنه صلي كباقي البحارة, كان يونان.
حاول البحارة إنقاذ يونان بكافة الطرق فلم يستطعوا.
**كان يونان يدرك الحق, ومع ذلك تمسك بالمخالفة, من أجل الكرامة التي
دفعته إليها الكبرياء, فتحولت إلي عناد... قالوا له: ماذا نصنع بك
ليسكن البحر عنا؟. فأجابهم: خذوني واطرحوني في البحر وهنا أقف
متعجبا!!
علي الرغم من كل هذه الإنذارات والضربات الإلهية, لم يرجع يونان. لم يقل أخطأت يارب في هروبي, سأطيع وأذهب إلي نينوي...
فضل أن يلقي في البحر, ولا يقول أخطأت..!
لم يستعطف الله.
لم يعتذر عن هروبه. لم يعد بالذهاب.
لم يسكب نفسه في الصلاة أمام الله.
إنما يبدو أنه فضل أن يموت بكرامته دون أن تسقط كلمته!! وهكذا القوة في البحر...
أما مشيئة الله فكانت لابد أن تنقذ.
هل تظن يا يونان أنك ستعاند الله وتنجح؟! هيهات, لابد أن تذهب مهما هربت, ومهما غضبت.
أن الله سينفذ مشيئته سواء أطعت أم عصيت, ذهبت أم هربت...
ألقي يونان في البحر, وأعد الرب حوتا عظيما فابتلع يونان.
و فى جوف الحوت وجد يونان خلوة روحية هادئة مع الله ففكر فى حاله :
إنه في وضع لا هو حياة, ولا هو موت. وعليه أن يتفاهم مع الله, فبدأ
يصلي. إنه لا يريد أن يعترف بخطيئته ويعتذر عنها, وفي نفس الوقت لا
يريد أن يبقي في هذا الوضع. فاتخذ موقف العتاب, وقال: دعوت من ضيقي
الرب, فاستجابني... لأنك طرحتني في العمق... طردت من أمام عينيك.
من الواضح أن الله لم يضع يونان في الضيق, ولم يطرحه في العمق, ولم يطرده ولكن خطيئة يونان هي السبب.
هو الذي أوقع نفسه في الضيقة, ثم شكا منها, ونسب تعبه إلي الله...
ولكن النقطة البيضاء، هي أنه رجع إلي إيمانه في بطن الحوت. فآمن أن
صلاته ستُستَجاب
ثم إنه لما قذفه الحوت إلي البر, وصدر إليه امر الرب ثانية,, ذهب إلي نينوي...
ولكن الظاهر أنه ذهب بقدميه مضطرا, وليس بقلبه راضيا.
ذهب من أجل الطاعة, وليس عن اقتناع.
بلغ الرسالة إلي الناس. ونجحت
الرسالة روحيا... وتاب أهل نينوي وتذللوا أمام الرب, وصاموا,
وصلوا. وقبل الرب توبتهم, ولم يهلك المدينة. ورأي النبي أن كلمته
قد سقطت, ولم تهلك المدينة فاغتاظ.
وكان غيظ يونان دليلا علي الذاتية التي لم يتخلص منها.
ما كان يجوز إطلاقا إن يغتاظ النبي
لخلاص أكثر من 120000 نسمة, قد رجعوا إلي الله بالتوبة وقلب منسحق,
لأن الكتاب يقول: يكون هناك فرحا في السماء بخاطئ واحد يتوب. ولكن
يونان لم يشارك في هذا الفرح من أجل ذاتيته.
في كل هذا لم تكن مشيئة يونان موافقة لمشيئة الله.
ولم يكتف يونان بهذا, بل عاتب الله, وظن أن الحق في
جانبه. فصلي إلي الله وقال: آه يارب, أليس هذا كلامي إذا كنت بعد في
أرضي. لذلك بادرت بالهرب إلي ترشيش,
!
عجيب هو الإنسان حينما يجامل نفسه علي حساب الحق! ويرفض الاعتراف بالخطأ مهما كانت أخطاؤه واضحة!!
علي أن الله استخدم في علاجه أربعة أمثلة من مخلوقاته غير العاقلة التي كلفت بمهام صعبة, وأدتها علي أكمل وجه, دون نقاش:
1-الأمواج.
التي لطمت السفينة حتي كادت تغرق,
2-الحوت
الذي بلع يونان,
3-الشمس
التي ضربت رأسه فذبل
4-الدودة
التي أكلت اليقطينة...
أما يونان فجلس شرقي المدينة ليري ماذا يحدث فيها.
كما لو كان ينتظر أن يعود الله فيهلك الشعب كله إرضاء لكرامة يونان؟!!
وأعطاه الله درسا من كل تلك الكائنات غير العاقلة التي كانت أكثر تنفيذا
لمشيئته من هذا النبي العظيم, الذي لم يتركه الرب بل هداه إلي طريقه,
بركة صلواته فلتكن مع جميعنا.
إن قصة يونان النبي وتوبة أهل نينوي, إنما تقدم لنا تأملات كثيرة...
لقد دخل شعب نينوي في التاريخ, ولم تكن لهم مظاهر عظمة تدعو إلي ذلك علي الإطلاق...
كانوا شعبا أمميا لا يعرف الله. وكانوا في حالة من الجهل لا يعرفون يمينهم من شمالهم يون 4:11.
وكانوا أيضا خطاة تلزمهم التوبة...
ولكن الذي سجل اسمهم, وخلد قصتهم في الكتاب المقدس, هو إنهم تابوا...
وقال عنهم السيد المسيح إنهم سيقومون في يوم الدين ويدينون هذا الجيل, لأنهم تابوا بمناداة يونان متي 12:41...
وكلما نذكر نينوي, نذكر هذه التوبة, لكي ما نقتدي بها في حياتنا...